
الجزيرة العربية مهد الإسلام .

جزيرة العرب تستقبل الإسلام
عاش العالم قديما قوى إستعمارية متنافسة ، سيطرت على أجزاء كبيرة من أراضي الدول ، شرقا و غربا ، كانت تدفعها إلى المزيد من السيطرة على الغير ، نواياها السياسية التوسعية ، و عظمة عتادها و عدتها العسكرية . كان الدين وسيلة طيعة في يدها تستعمله للتأثير على عقول الشعوب التي لا تملك أي حل للذود عن حرمتها و حرمة ترابها . لقد كانت الدولة الفارسية من بين القوى الإستعمارية في ذلك الوقت ، و موطنا للعقيدة الزرديشتية منذ 3500 قبل الميلاد ، و هي الديانة الرسمية المعتمدة فيها . تبيح الزواج بالأم ، و البنت ، و الأخت . ثم المزدكية ، و هي ثاني عقيدة قريبة من الإباحية . ظهرت أيام الملك أنو شروان .
أما الإمبراطورية الرومانية ، كانت قوة إستعمارية بلا مراء ، تسعى إلى نشر المسيحية طواعية أو إكراها . إحتلت آسيا الصغرى ، و الشرق الأدنى القديم ، و الجزء الشمالي من القارة الأفريقية ، بالإضافة إلى الكثير من التراب الأوربي . و كانت الدولة اليونانية ، دولة معتقدات ، تتعدد فيها عبادة الآلهة ، و فلسفة الإلحاد ، عرفت هذه الظاهرة بالثقافة الهيلينية . تطمح اليونان هي الأخرى إلى إحتلات الدول المجاورة . هذه هي الدول التي كانت تتميز عن غيرها بحضارة العمران ، الرقي الفكري و الفني . إلى جانب ذلك الصين و الهند في القارة الآسوية . إلا أن ما كان خفيا عن الكتاب ، و بعض المؤرخين هو الإنحطاط الخلقي ، و تدهور العلاقات بين الناس ، و تفكك المجتمعات نتيجة التفاوت الطبقي . الأمر لا يعدو أن يفسر على أن حضارات هذه الدول ، قامت على أساس قيم مادية بحتة ، تغيب فيها روح الإنسانية .
إن شعوب العالم في تلك الحقبة من الزمان ، خاصة في القرون الخمسة الأولى من ميلاد عيسى عليه السلام ، تعرضت إلى الإضطهاد الديني الذي سخر لتقديس السادة و الحكام ، و إذلال الفقراء و المعوزين ، و طموحا لتحقيق مصالح الطعاة المادية . شاء الله أن يجعل شعوب منطقة الحجاز بعيدة كل البعد عن مؤثرات هذه الحضارات ، و قيمها المادية . بل كان أفراد القبائل العربية أميين يعيشون على الفطرة ، يجوبون الفيافي و القفار بحثا عن العيش لأنفسهم ، و الكلأ لمواشيهم . و شاء الله أن جعل المجتمع المكي خادم البيت العتيق ، و بقاعه المقدسة . و شاء الله أن جعل الرسول الكريم من الأميين ، من عرب قريش .
قال تعالى
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ .1.
بعثة رسول الرحمة إلى كافة الناس
نزل التكليف على محمد الأمين بتبليغ الرسالة الإسلامية للناس ، و فرضت الصلاة على المؤمنين ركعتين بعد نزول سورة المدثر . ثم صارت خمس ركعات بعد الإسراء و المعراج . لقد كانت الدعوة إلى الإسلام في بدايتها سرا ، في دار الأرقم بن أبي الأرقم ، التي إتخذها الرسول مقرا للعمل الدعوي ، و مكانا لإجتماع الصحابة . كانت الدعوة تحت الكتمان مدة ثلاث سنوات كاملة. لقد كانت بداية ، في عشيرته الأقربين و في صحبه الأوفياء ، منهم : خديجة بنت خويلد ، أبو بكر الصديق ، عثمان بن عفان ، علي بن أبي طالب ، عبد الرحمن بن عوف ، سعد بن أبي وقاس ، الزبير بن العوام و عثمان بن عامر ، صفية بنت عبد المطلب ، أسماء بنت أبي بكر الصديق ، فاطمة بنت أسد أم علي ، و فاطمة بنت الخطاب .
لقد ظل الرسول طول هذه المدة ، يعلم أفراد عشيرته و أصحابه ، تعاليم الدين الحنيف إنطلاقا من آيات القرآن الكريم ، التي كان يتلقاها من الوحي . هذه هي شيم الرسل في نشر الرسالة . فلقد كان النبي عيسى عليه السلام ، يعلم الحواريين في بداية الدعوة النصرانية سرا كي يحافظ عليها من المتربصين به . إن الرسول محمد كان يلف دعوة الإسلام بالسرية المطلقة ، كي يتمكن من تكوين من يسنده و يقف معه ، عندما تتعاظم هذه الدعوة في أوساط المجتمع المكي . فإنه كان يعلم علم اليقين أن من سينكرها وسيقف ضدها هم عظماء قريش ، و سادة العرب . سيستعملون كل ما أمكنهم لإفشالها و إذلال المؤمنين بها . من بين الرافضين للدين الجديد الذي أعاب عقولهم و سفه أحلامهم هم : عتبة بن ربيعة والد هند ، الوليد بن المغيرة ، عتبة بن أبي معيط ، أبو سفيان بن حرب ، أمية بن خلف ، العاص بن وائل السهمي ، هند بنت عتبة ، أروي بنت حرب ، زوجة أبي لهب ، أسماء بنت مخربة ، حمدونة أم سعد بن أبي وقاس . أضمر رؤوس الشرك هؤلاء ، الضغينة المقيتة و العداء الشديد لرسول الله و أصحابه . لقد تفننوا في إيذاء النبي ، و من إتبعه من المؤمنين الضعاف .
ظل حال الدعوة الإسلامية يكتنفه نوع من السرية ، و الترقب ، إلى أن أمر الله رسوله بأن يجهر بها للملأ ، دون خوف و لا تردد . كان من الذين إعتنقوا الإسلام في هذه المرحلة ، أربعون رجلا و إمرأة ، تشكلت منهم النواة الأولى للإسلام . قال الله تعالى : فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ . 2. و قال الله كذلك : وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَْقْرَبِينَ . وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.3. يقول رودي بارت Rudi Paret أن عظمة محمد و تفرده ، تتجلى في كونه من ذلك الصنف من البشر ، الذي يميل إلى خدمة الناس و مساعدتهم ، و يريد التأثير عليهم . فبعد أن إمتلك الحقيقة الإلهية ، أحس أن الواحب عليه هو دعوة أبناء مدينته مكة ، و كل العرب إلى السير في طريق النجاة . 4 . إنتهى النص.
حين ذاعت أخبار الدعوة بين الناس ، و إستشرت في ديارهم و أسواقهم و مجالسهم و علم القاصي و الداني بأمورها ، فبات لزاما على قريش أن تتصد لها بكل قسوة ، و صلابة بغية محقها في بداية مشوارها ، و إبطال مفعولها على عقول الناس . بالتالي فسياسة قريش إشتدت شراستها على الرسول و المؤمنين ، تماشيا مع تنامي إعتناق الناس للدعوة إلى الإسلام . إتخذت قريش إذن لردع المؤمنين عن دينهم.
سياسة قريش العدائية اتجاه المؤمنين
أمام قسوة هؤلاء الرجال ، كان النبي يخفف عن أهله و عشيرته و أصحابه ثقل هذه القسوة فيطمئن بناته القلقات عليه كل مرة ، بأن الله مانع أباهم . و نفس حالات القلق إنتابت اصحاب رسول الله لما إشتد القهر و العنف عليهم من قبل سادة قريش ، فما كان عليه إلا أن يواسيهم بإستمرار ، و يثير فيهم نخوة العربي القح و صبره في أيام الرزايا و البلاوى و المحن . طلب أحد من هؤلاء المؤمنين النبي يوما ، ألا تدعو لنا ، فرد الرسول عليه : لقد كان قبلكم من ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم و عصب ، ما يصرفه ذلك عن دينه . و ليتمن الله هذا الامر حتى يسير الراكب من صنعاء ،إلى حضرموت لا يخاف إلا الله . هذه هي الكلمات البسيطة التي كان الرسول يرفع بها معنويات أصحابه و رفاقه من المؤمنين و يحيي فيهم قوة الإيمان و رباطة الجأش ، في مثل هذه الظروف العصيبة .
سياسة المساومة و إغراء الرسول
فشلت كل محاولات قريش الإستفزازية ، لصرف المؤمنين عن دينهم ، رغم فظاعة العنف و الجور . و أنسدت كل السبل أمامهم لإيقاف تنامي الدعوة ، و إتساع رقعة الإسلام يوما بعض يوم في المجتمع المكي . لجأ المشركون من أهل قريش في خطوة أخرى ، إلى سياسة المراوغة و الخداع . فكان من تدابيرهم الخبيثة للضغط على رسول الله ، أن اختاروا رجلا من وجهائهم المعروف بالحكمة و البصيرة و هو عتبة بن ربيعة ، يساوم محمدا لعله يرضخ لشروطهم و يوافق على مطالبهم . فقال عتبة : يا إبن أخي إنك منا حيث قد علمت من الشرف في العشيرة ، و المكانة في النسب . و إنك أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، و سفهت به أحلامهم . فأسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها . إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا ، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا . و إن كنت تريد شرفا سودناك علينا ، حتى لا نقطع أمرا دونك . و إن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا . و إ ن كان هذا الذي يأتيك رؤيا.تراه لا تستطيع رده عن نفسك . طلبنا لك الطب ، و بذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه . 5. إنتهى النص .
رد الرسول عليه من آيات القرآن فقال : ح۪مِٓۖ تَنزِيلٞ مِّنَ اَ۬لرَّحْمَٰنِ اِ۬لرَّحِيمِ . كِتَٰبٞ فُصِّلَتَ اٰيَٰتُهُۥ قُرْءَاناً عَرَبِيّاٗ لِّقَوْمٖ يَعْلَمُونَ . بَشِيراٗ وَنَذِيراٗۖ فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَۖ . وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِےٓ أَكِنَّةٖ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ وَفِےٓ ءَاذَانِنَا وَقْرٞ وَمِنۢ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٞ فَاعْمَلِ اِنَّنَا عَٰمِلُونَۖ . قُلِ اِنَّمَآ أَنَا بَشَرٞ مِّثْلُكُمْ يُوح۪يٰٓ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمُۥٓ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ فَاسْتَقِيمُوٓاْ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُۖ وَوَيْلٞ لِّلْمُشْرِكِينَ . 6.
سياسة المقاطعة و الحصار
سياسة المقاطعة و الحصار
لم تهتدي قريش إلى أي حل تنهي به أمر هذا الدين ، الذي إستفحل تأثيره على خيرة عقول العرب ، داخل مكة و خارجها ، إلا أن تقوم بقتل الرسول صاحب هذه العقيدة الجديدة ، فإجتمع من أجل ذلك ، سادة قريش للتشاور حول إتخاذ التدابير الناجعة ، و الكفيلة بقتله دون مواجهة لوم القبائل العربية عليها ، فطلبوا من قبيلة بني هاشم و بني المطلب تسليم محمد . كان من الطبيعي أن ترفض هذه القبائل طلب قريش . فعمدت قبيلة قريش إلى خط وثيقة ، تعاقد فيها جل سادتها على ألا يناكحو ، و لا يبايعوا ، و لا يدعوا سببا من أسباب الرزق يصل إلى أتباع الرسول ، و المؤمنين بدعوته ، و من سانده من بني هاشم و بني المطلب . و لا يقبلوا منهم صلحا و لا يأخذهم بهم رأفة إلى أن يسلموهم محمد . إلتزم مشركو قريش ببنود الوثيقة زهاء ثلاث سنوات ، من السنة السابعة إلى العاشرة من بعثة النبي . حوصر بنو هاشم و بنو المطلب و الرسول و أصحابه في شعاب مكة بمقتضى هذه الصحيفة .
عانى المسلمون في هذه الأعوام الثلاثة حدة العيش و جور الناس عليهم ، و غلاء الطعام في الأسواق بأمر من أبي لهب ، كي لا يدرك المؤمنون أي شيء يقتاتون منه. كانوا يأكلون الخبط و ورق الشجر . إنقضت ثلاث سنوات كاملة على المقاطعة ، و حصار أصحاب الرسول ، حتى بدأ تذمر و إستياء العرب يظهران في المجتمع المكي ، من فعلة قريش ، خاصة قوم بني قصي بن كلاب ، فأجمعوا أمرهم على نقض ما تعاهدت عليه قريش . و صمموا على إزاحة الوثيقة من جوف الكعبة الشريفة ، فوجدوا أن الأرضة أتت عليها إلا الكلمات التي ذكر فيها الله.
إن من بين الذين ساندوا نقض الصحيفة من المشركين : هشام بن عمرو ، المطعم بن عدي ، البختري بن هشام ، زهير بن أبي أمية ، زعمة بن الأسود . قال زهير بن أبي أمية : يا أهل مكة أنأكل الطعام ، و نلبس الثياب ، و بنو هاشم و المطلب هلكى لا يباعون و لا يبتاع منهم و الله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. ثم قام هؤلاء الخمسة ، و فكوا الحصار على المسلمين . إنتهت هذه السياسة الجائرة بالفشل الذريع ، و إستطاع الرسول بفضل صبره و تجلده و الثبات على الحق في الأخير ، من الإنتصار على ظلم قريش له و لإصحابه . يقول كارين أمرسترونج : العون الإلهي فيما يبدو ، هو التفسير الوحيد المحتمل للنجاح الفذ الذين حققه محمد . إنتهى النص.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- سورة الجمعة الآية 2 .
- سورة الحجر الآية 14 ـ 15.
- سورة الشعراء الآية 114 ـ 116.
- رودي بارت : ولد 1901 ـ 1983 ميلادية . أستاذ الدراسات الإسمية و اللغات السامية بجامعة تيبنج .
- عتبة بن ربيعة : شخصية بارزة في الإسلام أوقف حرب الفجار . ولد سنة 565 ـ 624 ميلادية .
- سورة فصلت الآية 1ـ 5 .