recent
أخبار ساخنة

معاهدة الصلح و فتح مكة المكرمة




معاهدة الصلح  و فتح مكة المكرمة
معاهدة الصلح 






كتابة وثيقة الصلح 


في شهر ذي القعدة من السنة السادسة الهجرية ، توجه النبي محمد إلى مكة المكرمة للعمرة ، و معه جمع ضخم من المهاجرين و الأنصار ، وصل عددهم ألفا و أربع مائة رجلا . أحرم الرسول بالعمرة مع أصحابه في الطريق ، و قاد معه الهدي ليأمن الناس من حربه ، و يعلموا إنما جاء زائرا للبيت العتيق ، و ليس مقاتلا . أثناء الطريق بعث محمد (ص)"بشر بن سفيان الخزاعي" يستطلع أحوال مكة ، و يأتي بخبر منها . قال بشر للرسول أن قريشا أعدت نفسها لملاقتك ، و دعمت جيشها بمقاتلين من الأحابيش . أشار أبو بكر الصديق على الرسول ، أن يدخل مكة المكرمة كما نوى ، و من تجرأ على قتلنا قتلناه بسيوفنا . فأمر الرسول عندئذ أصحابه على المضي إلى مكة ، و إختار مسلكا وعر في الجبال بمساعدة رجل من بني سالم خبير في معرفة المسالك و الشعاب مكة . وصل النبي محمد و المؤمنون إلى جبل يشرف على الحديبية ، فنزلوا فيه ، و نصبوا خيامهم .





أقبل من مكة رجل يسمى "بديل بن ورقاء الخزاعي " ، و معه رهط من مشركي قريش . جاء ليخبر الرسول بأن "كعب بن لؤي "، و "عامر بن لؤي " جمعوا جيشا لمنعهم من ولوج مكة . أجابه محمد صلى الله عليه و سلم ، لقد جئنا إلى البيت للعمرة ، فلا نقاتل أحدا ، و إن أرادوا القتال قاتلناهم . إستوضح "عروة بن مسعود" تفاصيل ذلك من الرسول . و رجع إلى قريش مندهشا مما رآه من أخلاق عالية ، و طاعة متناهية من أصحاب الرسول ، و الإمتثال الكامل لتعاليمه . قال إن محمدا عرض عليكم خطة رشد . بعثت قريش " سهيل بن عمرو " يمثلها في معاهدة الصلح مع المسلمين ، و كان كاتب وثيقة الصلح "علي بن أبي طالب" . تمت كتابة الشروط على الوثيقة ، بعدما حذف الرسول بعض العبارات التي لم يستسغها " سهيل بن عمرو" .


من أهم ما ورد في شروط الصلح : أن النبي طلب قريشا أن تخلي بينهم و بين البيت يطوفون به . رفض "سهيل" و قال لا يتم ذلك إلا في العام القادم ، و سيوف المسلمين في أغمادها ، ثم أردف يقول ، لا يأتيك منا رجل و إن كان على دينك إلا رددته إلينا ، و من جاء منكم لا نرده .


لقد إستاء المسلمون من هذه الشروط المجحفة ، و قبلها الرسول لأنه يعرف نفعها على المدى البعيد . و لم يهدأ بالهم إلا بعد نزول سورة الفتح . أمر الرسول أصحابه بنحر البدن ثم حلق الشعر ، ففعلوا بعد تردد إلتحق بالمسلمين و هم في طريقهم إلى المدينة ، نسوة مهاجرات بدينهن ، منهن "أم كلثوم بنت عقبة" . فنزلت الآيات التالية :

 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ۖ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ۖ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ۚ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ۚ ذَٰلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ ۖ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . 1 .


لقد كان "عثمان بن عفان" في مكة ، مبعوثا من قبل الرسول ، حدث هذا قبل تقييد بنود معاهدة الصلح بين المسلمين و المشركين ، المشهورة بصلح الحديبية . إنتشر يومها خبر توقيفه من طرف قريش ، و قتله . إضطر النبي عندئذ ، و صمم على مقاتلة المشركين في مكة ، فدعى أصحابه إلى مبايعته واحدا واحدا على خوض غمار هذه المواجهة . سميت هذه المبايعة في تاريخ المسلمين ، "ببيعة الرضوان " . لكن تبين أن الخبر مجرد إشاعة لا أساس لها من الصدق .





الأبعاد السياسية لصلح الحديبية 


لقد أدركنا من خلال دراستنا مجمل شروط صلح الحديبية . أن أصحاب الرسول صلى الله عليه و سلم ، لم يدركوا جيدا الأبعاد السياسية التي سوف تحققها هذه المعاهدة في المدى القريب ، أقصاه سنة . و لم يعرفوا أنها مقدمة لفتح مكة المكرمة برمتها . و أنها اللبنة الأولى في إنجاز صرح الأمة الإسلامية . أن صلح الحديبية الذي تم بين المسلمين و عرب مكة ، كان بوابة عظيمة لإنتشار الإسلام في ربوع الجزيرة ، و في المعمورة كلها . عانقته أقوام و أمم بعيدة كل البعد عن منطقة العرب ، و عن جزيرة العرب .




قال الله تعالى : لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا. و قال الله تعالى : هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ . 3.


مكن صلح الحديبية رسول الله من منح المسلمين راحة العيش خارج أجواء الحروب لفترة ، و إسترجاع قواهم النفسية و القتالية ، و إعطاء المسجد الدورالمنوط به في تعليم المسلمين دينهم ، و التفقه في أحكامه ، و مداومة حفظ القرآن الكريم ، و تربية المجتمع الناشئ على التعاليم الإسلامية شيئا فشيئا.


يقول "وول ديورانت" Will Durant: إذا حكمنا على العظمة بقدر ما كان للعظيم من أثر في الناس ، قلنا أن محمدا كان من أعظم عظماء التاريخ ، فقد أخذ على نفسه أن يرتقي بالمستوى الروحي ، والأخلاقي لشعب ألقت به حرارة الجو ، و جدب الصحراء في دياجير الظلام . و قد نجح في تحقيق هذا العرض نجاحا لم يقاربه فيه أي مصلح آخر في التاريخ كله . فقل أن تجد إنسان غيره قد حقق كل ما كان يحلم به ، و قد وصل إلى ما كان يبتغيه عن طريق الدين ، و لم يكن ذلك لأنه هو نفسه كان شديد التمسك بالدين و كفى ، بل أنه لم يكن ثمة قوة غير قوة الدين تدفع العرب في أيامه إلى سلوك الذي سلكوه . إنتهى النص .4.


هذه إعترافات رجل علم من عمق الغرب ، له قدم راسخة في معرفة خبايا التاريخ ، و تاريخ الديانات على الخصوص . يتميز حسب أهل العلم بالمنهجية و الموضوعية في تسجيل حقائق التاريخ بكل أمان . لقد صرح بإعجابه بمحمد و ما أنجزه في صحراء قاحلة لقوم عاشوا فترات هامة من تاريخهم في حروب لا تنتهي . إستطاع في ظرف وجيز أن يجعل منهم أمة موحدة بعد تشرذم أبعدهم عن التحضر كسائر الأمم المجاورة . لقد أصلح أحوالهم الروحية و النفسية و علمهم أن المحبة و التسامح هي الطريقة لصناعة الشرف و المجد .





غزوة خيبر 




في شهر محرم من السنة السابعة هجرية ، قاد الرسول جيشا عتيدا ، قوامه ألف و أربع مائة مقاتل إلى مدينة خيبر ، التي تقع شمال المدينة المنورة . تضرع محمد (ص) في الطريق ، إلى الله يدعوه النصر ، و يثبت المسلمين للسعي إلى فتحها فقال : اللهم رب السماوات و ما أظللن ، و رب الأراضين و ما أقللن ، و رب الشياطين و ما أضللن ، و رب الرياح و ما أذرين . فأنا نسألك خير هذه القرية ، و خير أهلها ، و خير ما فيها ، و نعوذ بك من شرها ، و شر أهلها ، و من شر ما فيها . أقدموا بسم الله.


قاتل الرسول أهل خيبر و هم عرب دانوا باليهودية ، و فتح حصونهم ، و حاصر الأخرى . كان يومها "علي بن أبي طالب" ، هو حامل لواء الجهاد في سبيل الله . تم فتحها و غنم المسلمون حصونها ، و أموالها ، و أبقوا أهلها بعد ما تنازلوا طواعية على دفع جزء من خراج أراضيهم الزراعية للمسلمين . في تلك الأثناء وصل " جعفر بن أبي طالب" من الحبشة مع أصحابه ، و حضر خيبر ، فأسهم لهم رسول الله من تلك الغنائم .





قال الله تعالى : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . 5.


بهذه الطريقة إستطاع الرسول أن يضم خيبر إلى حظيرة المجتمع الإسلامي ليزداد سعة ، و يجعل من مساعي سكانها في خدمة مصالح المسلمين بلا تردد ، و التي لا تتحقق إلا وفق تعاليم القرآن . من هنا بدأت بوادر النهوض المعرفي ، و التماسك الديني تطرأ رويدا رويدا على الأمة الإسلامية الفتية . لقد تجاوز الرسول بالعرب في الجزيرة بعد جهاد طويل ، مرحلة سادت فيها ديانات الأوهام و التصورات الباطلة و التخمينات الواهية ، إلى دين الطهر الروحي ، و الرقي العقلي و العفاف الجسدي ، دين الوحدة و ألفة و الوفاق بين المسلمين على إختلاف أجناسهم .






يقول "هانز كينج" Hans Kueng: لقد إرتقى النبي بالعرب قياسا بما كانوا عليه من ديانات الآباء الوثنية المتدنية إلى مستوى ديني يمكن مقارنته بما عليه الممالك الكبرى المجاورة للإسلام كديانة توحيدية أخلاقية كبرى . 6 .






الإسلام يجتاح الجزيرة  و يتعدى حدودها 



خلال السنة السابعة الهجرية ، بعد العودة من الحديبية ، إهتم الرسول أكثر بأمر دعوة القبائل العربية في الجزيرة إلى إعتناق الإسلام ، فبعث لأجل ذلك أصحابه بغية القيام بهذه الوظيفة النبيلة . وصل عدد السريا التي قامت بهذه المهام عشرة . كما إهتم بإرسال كتب إلى مختلف الملوك ، و الرؤساء في المعمورة ، يدعوهم إلى الإسلام ، و ترك الديانات الباطلة . ختم الرسول هذه الرسائل بخاتم من فضة ، كتب عليه محمد رسول الله . خرج ستة من الصحابة في يوم واحد ، و كان كل رجل يتكلم لغة القوم الذي بعث إليهم .


 توجه "عمرو بن أمية الضمري" إلى الحبشة يحمل كتاب الرسول إلى "النجاشي" ، فأسلم على الفور . و خرج "دحية بن خليفة الكلبي" إلى الروم ، فسلم الرسالة إلى "هرقل" ملك الروم ، فأبى أهله أن يتخلوا عن دينهم و يعتنقون غيره . كما توجه "عبد الله بن حذافة السهمي" إلى "الفرس" ، و سلم الرسالة إلى "كسرى" فمزقها ، قال الرسول في حقه مزق الله ملكه . فمات و أسلم "باذان" عامله على اليمن . و ذهب "الحارث بن عمير الأزدي" إلى "البصرى" و سلم كتاب رسول الله ، إلى "شرحبيل بن عمرو الغساني" التابع لروما فقتله ، و لم يسلم . واصل الرسول بعث الرسائل إلى الكثير من الأمراء العرب ، فأسلم البعض و عاند البعض . ثم تلاحقت الوفود العربية من شتى مناطق الجزيرة على رسول الله تعلن إسلامها . و من بين كبار العرب الذين أسلموا في هذه المدة "خالد بن الوليد" و "عمرو بن العاص" .


لقد أيد الله هذا الدين ، و مكنه من الجزيرة العربية ، فدخل فيه الكثير من القبائل و الشخصيات العربية البارزة ، و الشعوب الأعجمية النائية . كان إنتشار الإسلام بهذه السرعة ، بداية إنهيار عقيدة الشرك في جزء هام من العالم ، و إنقطاع عهد المشركين في الكثير من المناطق إلى عهد التوحيد . و ظهور بدله المنهاج الرباني للمؤمنين ، الذي أصبح السبيل الصحيح لتقويم حياتهم الدينية و الدنياوية . لقد أبرأ الإسلام العقول العليلة من أوهام الشرك و الضلال ، و محا الجور و الجبروت بين الطبقات المتباينة في المجتمعات الإنسانية . و جعل العلم و المعرفة هي ذروة الفوز في سلم الإستحقاق ، و جعل العمل هو مطية المجد و السؤدد ، و جعل المحبة هي الحصن الذي يقي الأمة الإسلامية الفتية من التصدع .



لقد غير هذا الدين قيم المجتمعات المستوحاة من الأعراف الواهية ، و الطقوس المضللة ، إلى قيم الخير ، و العمل و المساواة بين الناس ، و حماية حرمة المسلم و كرامته ، و الدفاع عن وحدة الأمة المؤمنة ، و التسامح و مسالمة من لم يجرؤ على معاداة المسلمين . هذه هي المعالم البارزة لتحضر أمة أنهكتها الحروب و الفتن ، و فل عقولها الجهل و الأمية . هذا هو المنهاج الإنساني السديد الذي ألزمه الله البشرية جمعاء من فوق سبع سموات .



الكثير من الملحدين و المستشرقين ، و بعض المغرضين من العرب ، يدعون بلا أدنى موضوعية ، أن الإسلام يفتقد في الأساس إلى برنامج حضاري يمكن أن يسير بمقتضاه كل المقتنعين به ، و ذلك على غرار الرأسمالية ، و الشيوعية ، و الليبرالية التي إنتشرت تجربتها في جزء هام من العالم ، و أوصلت المجتمعات الإنسانية إلى مستويات الرقي العلمي و التكنولوجي و الفني الظاهر اليوم في العالم . لكن حسب رأينا و على العكس من هذه الإنطباعات و المواقف الغربية ، فإن الإسلام لا زال يكتسح يوما بعد يوم المعمورة ، و يغزو ديار الغرب أنفسهم ، و يغير باستمرار قيمهم الثقافية و أخلاقيات و سلوكيات شعوبيهم التي ألفت مع مرور مراحل التاريخ الغربي ، أن المفاهيم الكبرى لثقافتها هي السعي الدائب وراء تحقيق المصلحة الشخصية لفيئات رأس المال و ذوي النفوذ و السلطة عن طريق استغلال المفرط و المخيف للإمكانيات البشرية ، و مقدرات الطبيعية .


 لقد مالت المجتمعات الغربية ، و حتى الشرقية خاصتها و عامتها في هذه الآونة إلى هذا الدين ، الذي يدعو مشروعه إلى تثبيت دعائم قوية لبناء الحضارة الإنسانية المنتظرة ، الخالية من الصراعات و الحروب بين الأمم ، و عقائد الميز العنصري بين الشعوب ، و التفاضل بين الطبقات الإجتماعية في أجواء السلم و التسامح . لقد أثبت التاريخ البشري بلا مراء ، إن الإسلام أمد الإنسانية برصيد ضخم من التراث الحضاري ، لا زالت معالمه شاهدة على ذلك إلى اليوم ، و أفاد البشرية بمنتجاته الحضارية في مجال العلم و الثقافة ، بإعتراف علماء الغرب أنفسهم .





صدق الرسالة السماوية و سداد منهاجها 



كل نزيه يعرف أن ديانة التسامح و الإنسانية ، عطل سيرها الحضاري ، و قوض مدنيتها الإستعمار البغيض، الذي أنجبته الرأسمالية و الليبرالية ، و الإحتلال المقيت الذي أباد شعوبا بأكملها من أجل المصلحة المادية ، و ذلك في آسيا و أمريكا و أفريقيا . هذا الدين السمح الذي رفع راية المدنية عالية رفرفت زمانا طويلا في فضاءات أمم و شعوب كثيرة ، صار في ثقافة أمم الغرب بدعة من صنع محمد، و إنساق وراء ذلك الكثير من المفكرين العرب ، و كرسوا أقلامهم لأجل ذلك ، لأجل تشويه وجه الإسلام الحقيقي .



يقول "مونتجمري وات" Montgomery Watt : لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متمدن من أبناء هذا العصر ، أن يصغى إلى ما يظن من أن دين الإسلام كذب ، و أن محمدا خداع مزور . و أن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة ، بأن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ، ما زالت السراج المنير مدة إثني عشر قرنا ، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا ، خلقهم الله الذي خلقنا . أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ، و ماتت عليها هذه الملايين الفائقة الحصر و الإحصار ، أكذوبة و خدعة . إنتهى النص . 7 .




تهيئة الأجواء لفتح مكة المكرمة 



في شهر ذي القعدة من السنة السابعة الهجرية ، توجه الرسول ، و أصحابه إلى مكة المكرمة لأداء عمرة القضاء . وصل عددهم إلى ألفين شخص ، و جلهم من أهل الحديبية. دخل الرسول المسجد و قال : رحم الله أمرؤا أراهم اليوم من نفسه قوة . ثم واصل مناسك العمرة من طواف ، و سعي ، و تزوج أثناءها "بميمونة بنت الحارث" . إندهشت قريش من القوة التي وصل إليها محمد في ظرف وجيز ، فقالوا "لعلي بن أبي طالب" قل لصاحبك أخرج عنا فقد مضى الأجل . و في السنة الموالية توجه الرسول و رفاقه إلى "مؤتة" في الشام ، و تحديدا في شهر جمادى الأولى من السنة الثامنة الهجرية . كان عدد المقاتلين من المسلمين ثلاثة آلاف جندي مستعدين لمحاربة جيش ملك البصرى الذي قتل "الحارث بن عمير الأزدي" .



لم يخرج الرسول مع أصحابه و قال لهم : أمير الناس "زيد بن الحارث" ، إن قتل "فجعفر بن أبي طالب" ، و إن قتل "فعبد الله بن رواحة" و إن مات أمروا على أنفسكم رجلا منكم . أدعوهم إلى الإسلام فإن أبوا فقاتلوهم بإذن الله . ودع الرسول أصحابه ، و هم متأهبون للخروج من المدينة المنورة .






فتح مكة المكرمة 



في شهر رمضان من السنة الثامنة الهجرية ، تآمرت قريش مع البعض من "بني بكر" على "خزاعة" ليلا . و خزاعة قبيلة قد دخلت في عهد مع رسو ل الله . قتلت قريش في هذه المؤامرة عشرين رجلا آمنا من الخزاعيين . نقل الخبر على جناح السرعة "عمرو بن سالم الخزاعي" و معه أربعين فارسا إلى رسول الله . كان موقف نبي الله واضحا فقال : لا نصرت إن لم أنصر "بني كعب" مما أنصر منه نفسي و قال إن هذا السحاب ليستهل بنصر "بني كعب" . بعد ما علمت قريش بموقف الرسول ندمت و أرادت أن تصلح ما بدر منها و تجدد الهدنة معه .


 فأرسلت "أبا سفيان" يمثلها في هذه المهمة . أبى الرسول طلبها ثم توجه "أبو سفيان" إلى الصحابة فرفضوا كلهم . على إثر فشل المفاوضات عاد "أبو سفيان" إلى مكة خالي الوفاض . تأهب جيش المسلمين لمنازلة قريش في مكة . و دعا الرسول ربه إن يمكنه من مباغتة المشركين و هم لا يدرون . و تسرب الخبر من "حاطب بن بلتعة" و هو من المؤمنين لكن سرعان ما بعث الرسول برجاله ليوقفوا المرأة التي كانت تحمل الكتاب إلى قريش . إستفسر الرسول بلتعة على ما قام به ، فرد عليه إني لم أرتد و أنا الذي شهدت غزوة بدر و إنما خفت على أهلي و مالي في مكة .



خرج الرسول في اليوم العاشر من رمضان متوجها إلى مكة المكرمة و أرسل إلى كافة العرب المتحالفة معه في سرية تامة أن يلتقي جمعهم في مكان يسمى "الظهران" . وصل عدد المسلمين المقاتلين عشرة آلاف رجل . كانت قريش تتوقع التوتر بعد فشل "أبي سفيان" في مهمته. فبعثته مرة أخرى برفقة "حكيم بن حزام" و "بديل بن ورقاء" يتحسسون أخبار النبي . لقد تجمعت القبائل العربية المسلمة ، و المتحالفة مع الرسول في "الظهران" و أوقدت المشاعل عالية في الأجواء لترفع من معنويات الجند و تثير الهلع لدى قريش . في هذا الظرف وقع "أبو سفيان" و رفاقه في قبضة حراس الرسول و سيقوا إلى المعسكر . لقد أسلم "أبو سفيان" عندما أدرك تأييد الله العظيم لرسوله فيما حققه من تحالف العرب تحت راية الإسلام .



دخلت جيوش النبي محمد مكة من كل جهة هاتفين بأعلى أصواتهم الله أكبر . قال رسول الله من دخل بيت "أبي سفيان" فهو آمن و من دخل المسجد فهو آمن . لم تتم في تلك الآونة أية مقاومة ، إلا التي حدثت بين "خالد بن الوليد" و بعض المشركين الحاقدين على الرسول مثل "عكرمة بن أبي جهل" و طصفيان بن أمية" . توجه الرسول بعد ذلك إلى الكعبة الشريفة فحطم كل الأصنام ، و كان عددها ثلاث مائة و ستون صنما و هو يقول : جاء الحق و زهق الباطل . جاء الحق و ما يبدئ الباطل و ما يعيد .



خطب الرسول في الحشود الكثيرة فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له . صدق وعده و نصر عبده . و هزم الأحزاب وحده . ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين ، إلا سدانة البيت أو سقاية الحاج . يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية و تعظمها بالآباء . الناس من آدم و آدم من تراب . ثم تلا قول الله : يا أيها الناس إن خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله أتقاكم . ثم واصل يقول يا معشر قريش ما ترون إني فاعل بكم . قالوا خيرا أخ كريم إبن أخ كريم . فقال : إذهبوا فأنتم الطلقاء .


 بعد إنتهاء خطاب رسول الله شرع الناس يبايعونه رجالا و نساء على السمع و الطاعة . و على أن لا يشركوا بالله شيئا . و لا يسرقون و لا يزنوا و لا يقتلون أولادهم . و لا يأتون ببهتان يفترينه بين أيديكم و أرجلكم . و لا يعصونه في معروف. هذه هي المبادئ الأولى التي تعاهد عليها حشود العرب مع رسول الله أثناء فتح مكة المكرمة . و هي كما نلاحظ أنها بداية تكوين أخلاق الأمة الإسلامية و تصحيح مسارها نحو المجد و الحضارة في المستقبل .



غزوة حنين 



لقد دانت قريش ثم عرب الجزيرة لرسول الله و دخلوا في الإسلام أفواجا أفواجا . من الطبيعي لم يرق نصر المسلمين على الشرك و المشركين بعض القبائل العربية ، و راح سادتها يخططون في الخفاء لمقاتلة النبي و إنهاك جنده و الإطاحة بالدولة الإسلامية الفتية . كان مدبر أمر تحريض قبيلة هوازن و ثقيف و السعي بهم إلى الحرب هو مالك بن عوف سيد قبيلة هوازن . تمكن من حشد جيوشهم وتجميع أموالهم لتمويل الحرب و دعمها . نزلت هذه الحشود في مكان بين مكة و الطائف يسمى أوطاس .


 خرج الرسول إليهم في جيش قوامه إثني عشر ألفا من المسلمين في شهر شوال من السنة الثامنة هجرية . صاح رسول الله في جيشه أن يقبلوا و لا يتقهقروا و كانت هذه الحرب حامية الوطيس بين المسلمين و المشركين . أمام صمود و صلابة جيش الرسول و قوة تحديه لم يجد المشركون بدا من الإنسحاب و التراجع عن المعركة في وادي حنين ثم الفرار منها و بالتالي تمكن المسلمون من تحقيق النصر المبين و إنهزم جيش القبائل المعادية و أسر الكثير منهم . بعد أيام قليلة من غزوة حنين جاءت وفود ثقيف من الطائف إلى الرسول معلنة الإسلام . ثم تلتها قبيلة هوازن . بهذا النصر صار معظم تراب الجزيرة العربية خاضعا لحكم الدولة الإسلامية تحت قيادة رسول الرحمة محمد بن عبد الله بشكل نهائي.




غزوة تبوك 



في شهر رجب من السنة التاسعة هجرية جرت غزوة أخرى من غزوات رسول الله و هي غزوة تبوك . كانت بين المسلمين و جيش إمبراطورية الروم و من قوم لخم و جذام و نصارى بعض العرب التابعين لها. جرت وقائعها أيام الصيف الحار في منطقة البلقان . كان عدد جند المسلمين ثلاثين ألفا و عدد جيش الروم يقارب أربعين ألف مقاتل . في هذه المواجهة ذات الظروف غير المواتية و تفاوتت فيها العدة و العتاد بين الجيشين تخلف عمدا عبد الله بن أبي بن سلول و رجاله في المدينة و لم يلتحق بالنبي .



قال الله تعالى فيه : فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ .8 .



وصل رسول الله و جيشه تبوك فلم يجد قتالا و لا مقاومة بل صالح أهلها الرسول على الجزية . عاد المقاتلون المسلمون إلى المدينة في شهر رمضان من تلك السنة حاملين راية النصر.











المصادر
  1.  سورة الممتحنة الآية 10 . 
  2.  سورة الفتح الآية 27 .
  3.   سورة الصف الآية 9 
  4.  وول ديورانت : ولد سنة 1885 ــ 1981 ميلادية . فيلسوف و مؤرخ أمريكي . من كتبه قصة الحضارات .
  5.  سورة الأنفال الآية 41 . 
  6.  هانز كينج : هو قس سويسري لدى الكنيسة الكاثوليكية ولد 1928 ميلادية . 
  7.   مونتجمري وات : شخصية إنجليزية ، ولد في 1909 ـ 2006 ملادية . 
  8. أستاذ الدراسات العربية و الإسلامية .
  9.   سورة التوبة الآية 81 .
google-playkhamsatmostaqltradent