وضعية الأمة الفرنسية في الظروف الدولية الحالية
تعيش الأمة الفرنسية في الفترة الأخيرة ، تراجع مكانتها في جلّ المجالات ، على الصعيد الأوروبي و العالمي . فلم يصمد تقدمها أمام السرعة المذهلة لجيرانها الغربيين مثل : بريطانيا، و ألمانيا، و إيطاليا، و كندا، و أستراليا. و لا أمام عمالقة القارة الآسيوية مثل : روسيا، و الصين، و الهند، و كوريا، و تركيا، و إيران. و ذلك في شتى ميادين المعرفة منها : التكنولوجيا، و العلوم، و الإعلام، و الفضاء، و الصناعة العسكرية . و هذا حسب المعلومات التي توفرت لدينا من الإعلام الرسمي ، و الخاص لهذه الدول . و كذا مقالات الصحف العالمية، و الدراسات المعمقة لكثير من الخبراء و المحللين في الشأن السياسي.
يتجلى هذا التقهقر السريع، و المقلق على مصير هذه الأمة، في عدة عوامل أبرزها و أخطرها هو العامل السياسي، الذي نرى من خلاله طبيعة الواقع الإقتصادي، و الإجتماعي و الثقافي في الدولة الفرنسية. إن طبيعة السياسة التي ظلت تمارسها السلطة الفرنسية على المستوى الخارجي، و الداخلي منذ 2019 ميلادية، تمخضت في الأخير عن أزمات خانقة في المجتمع الفرنسي نفسه . كما أدت إلى توتر العلاقات الدبلوماسية مع الكثير من دول العالم . خاصة دول القارة الأفريقية، و في صدارتها الجزائر، و مالي . يبرر العارفون بشؤون السياسة، أن وصول حزب " الجمهورية إلى الأمام " La République en marche إلى سدة الحكم كان السبب الرئيسي في تردي أوضاع الأمة الفرنسية برمتها. نتيجة توتر العلاقات الخارجية بشكل واسع. و إضطراب الحالة الإجتماعية في فرنسا بذاتها.
طبيعة العلاقات الفرنسية الإقتصادية مع أفريقيا
لقد فشل الرئيس الفرنسي الحالي و فريقه في الحكومة الفرنسية ، في التعامل مع الكثير من القضايا الإقتصادية، و غيرها من القضايا، التي صادفته في مشواره السياسي . يعزى سبب ذلك في نظرنا، إلى إنتهاجه سياسة من كان قبله من الرؤساء . إن السلطة الفرنسية منذ الرئيس "شارل دي غول" لا زالت تعتقد إلى يومنا هذا أن الوصاية، و النفوذ على المستعمرات القديمة، هي السبيل الوحيد لصمود الإقتصاد الفرنسي، و ضمان تقدمه في خضم تسابق الدول نحو التصنيع بشقيه المدني و العسكري. و بالتالي فإن هيمنة المحتل القديم على ثروات و مقدرات بلدان القارة السمراء، هي بكل تأكيد هذا الضمان نفسه.
بحيث تبقى هذه القارة الممون الرئيسي لإقتصاد فرنسا على المدى البعيد بتكاليف رمزية أو منخفضة . إن نجاح هذه السياسة الإستغلالية حسب رؤى الساسة الفرنسيين، لا يتأتى إلا بمواصلة الضغوط على أنظمة هذه البلدان، و توجيه سياساتها كي تكون دائما في خدمة هذا التصور. و بذلت الدبلوماسية الفرنسية مساعي حثيثة في تجسيد هذه الغاية لصالح فرنسا. في هذا السياق يؤكد المحلل السياسي "غازي معلى" أن الإقصاد الفرنسي يعتمد حاليا على "مالي"، و "النيجر"، و "التشاد" في تموين المفاعل النووية بمادة اليورانيوم، لإنتاج الطاقة الكهربائية بنسبة قد تصل إلى 25 % .
سياسة فرنسا في نهب خيرات أفريقيا الطبيعية
زيادة على ذلك ، فإن السلطة الفرنسية أثناء حكم الرئيس الحالي ، باركت أعمال النهب التي تقوم بها الشركات الفرنسية في مجال الثروات الطبيعية كالبوكسيت، المنغنيز، الفوسفات الكروم، الكوبالت، البلاتين، والحديد و المعدن النفيسة كالماس، الذهب، النحاس، الفضة . و هي مواد أولية هامة تُصدر مباشرة إلى مصانعها في شكلها الخام . إلى جانب هذا الإستغلال البشع ، فإنها تقوم بإستنزاف النفط و الغاز الأفريقي بنسبة 36 %. أيضا من نجيريا و دول أخرى . لقد تعدى جشعها من نهب الموارد الطبيعية في أفريقيا، إلى التحكم الكامل في الوحدة النقدية المعروفة "بالفرنك الأفريقي"، و هو نظام نقدي تتعامل بمقتضاه 14 دولة أفريقية من المستعمرات القديمة ، من غرب و وسط القارة مع البنوك ، و المصارف الفرنسية فقط . خاصة "البنك المركزي الفرنسي" .
هذه المكيدة التي فُرضت على المستعمرات القديمة ، هي في حقيقة الأمر وسيلة تأمين تدفق العائدات النقدية ، و الإقتصادية بإستمرار من هذه الدول إلى البنوك الفرنسية . لقد تم هيكلة الدول المتعاملة "بالفرنك الأفريقي" ضمن تنظيمات مالية بغية تقوية الكتلة النقدية الأفريقية و ربطها نهائيا بالبنوك الفرنسية وهي :"الإتحاد النقدي الإقتصادي لغرب أفريقيا" و يضم : "بنين" "بوركينافاسو" "كوت ديفوار" "غينيا بيساو" "مالي" "النيجر" "السنغال" و "طوغو" . "المجموعة الإقتصادية و النقدية لوسط أفريقيا" و تضم : "الكامرون" "أفريقيا الوسطى" "الكونغو" "الغابون" "تشاد" و "غينيا الإستوائية" .
إن هذه السياسة الإستعلائية المبنية على مصادرة ما تملك أفريقيا من موارد طبيعية، غصبا و تسلطا، ظلت تمارس من قبل المحتل القديم بواسطة الضغط ، و إرغام حكام هذه الدول على الطاعة العمياء ، و الإنصياع الكامل لإرادتها ، بواسطة بالإبتزاز تارة ، أو بالتهديد و التصفية الجسدية تارة أخرى. أي تدبير الإنقلابات العسكرية ، و الإطاحة بالساسة الأفارقة . و كان دور المخابرات الفرنسية فعالا جدا في ترويض الحكام الأفارقة على الإمتثال للأوامر و تحقيق مآرب الفرنسيين الإقتصادية الملحة.
هذا هو منطق السياسة الفرنسية مع أنظمة القارة السمراء . و بات من الواضح أن هذه المعاملة غير الشريفة، إنكشفت للعيان، و تفطن لها الوعي الإفريقي المتنامي لدى الشباب. خاصة وعي النخبة المثقفة. و تعالت موجة النقد، و الإحتجاج من قبل المفكرين الأفارقة ، و بدأت ملامح إنعدام ثقتهم في نوايا فرنسا FRANCE تغزو عقولهم و ضمائرهم. كما أدركت الأمة الفرنسية أن ما يحدث لأفريقيا جراء سياسة حكومتها الرعناء سوف يدخلها في نفق مظلم لا نهاية له و يجرها إلى خلف الدول المتقدمة .
كيفية تصدي الحكومة الفرنسية للجهاديين
ظهر عجز الحكومة الفرنسية كذلك ، في إيجاد إستراتيجية ناجعة كفيلة بالتصدي للجماعات المتشددة، التي تعرف اليوم بالجماعات الإرهابية. و التي باتت تهدد مصالحها الإقتصادية في القارة الأفريقية . خاصة في دول الساحل الأفريقي ، و جنوب الصحراء التي تعد موطنا لسبعة مواقع جهادية خطيرة في العالم . و هي في تزايد و إنتشار مستمر . لقد أدركت السلطة الفرنسية في الآونة الأخيرة ، حجم هذا الخطر و التهديد الدائم لإستقرار الأوضاع في المنطقة. و رأت أن الوسيلة الناجعة للذود عن مصالح الشركات الفرنسية الحيوية في هذه المنطقة ، هي التدخل العسكري المباشر ضد تواجد الجماعات المسلحة ، و مواجهة حركات التمرد الرافضة للهيمنة الفرنسية .
ففي سنة 2014 ميلادية أنشأت قوات عسكرية أطلقت عليها عملية "برخان" operations Barkhane . جرى تكوين هذه العملية العسكرية مع خمس دول من الساحل الأفريقي منها "مالي" و "النيجر" و "تشاد" و "موريطانيا"و "بور كينافاسو" و تضم هذه العملية ما يزيد عن 600 جندي إلى 5100 جندي . بالإضافة إلى أربع قواعد عسكرية، أهمها قاعدة في شمال النيجر تؤدي نفس الغرض . و من البديهي أن كل هذه التدابير تسير في منحى واحد، هو في الأخير حماية مصادر تموين الإقصاد الفرنسي بشكل دائم .
هذا الحل المتمثل في التدخل العسكري الفرنسي ، بات في نظر الرئيس الفرنسي الحالي غير فعال ، و لا ناجع بالقدر المرجو منه. ففي بعض الحالات الظرفية التي تطرأ على ساحة الصراع في الساحل الأفريقي، تجبره على إتخاذ تدابير فورية ، و إجراءات عاجلة لتخطي النتائج العكسية لها ، والتي تأثر سلبيا على أدائه السياسي . حتى لو أدى ذلك إلى إنتهاك القوانين الدولية المنظمة لكيفية التعامل مع الجهاديين ، ما دامت الغاية من ذلك هي في نظره وقاية مصالح بلاده . من هذه التدابير الإعتماد على وسيلة التفاوض مع الجماعات الجهادية بطريقة ملتوية، و سرية للغاية قصد تحرير الرهائن الفرنسيين مقابل دفع الفدية المالية لهم. و أكدت التقارير الإعلامية هذا التصرف السياسي الأحمق ، أكثر من مرة . بحيث نجح في تحرير أربعة فرنسيين من بينهم إمرأة . و كانت قيمة الصفقة 30 مليون يورو ، قدمها الرئيس الفرنسي الحالي للجهاديين في منطقة شمال مالي . هذه السلوك المنافي للقرارات الأممية ، أثار الكثير من الجدل في الصحف العالمية ، و منصات التواصل الإجتماعي .
وإعتبر الملاحظون السياسيون أن تعامل السلطة الفرنسية مع الإرهاب بهذه الكيفية المخلة للأخلاق و الأعراف الدولية ، هي في حقيقة الأمر خرق صارخ لجميع الإتفاقيات الدولية الخاصة بقمع ، و تمويل الإرهاب الدولي . إنها تعرقل كل المساعي الدولية لمكافحة الإرهاب ، و تجفيف منابع تمويله. و رغم سخط الجماهير الأفريقية ، و جالياتها بالخارج ، و إستياء الرأي العام العالمي من هذا السلوك فإن رئيس الحكومة الفرنسية ، لم يعِر بالا لذلك . بل إن إنشغاله في نهاية الأمر ، هو أن يضمن إنتعاش إقتصاد بلاده بفضل خيرات أفريقيا الطبيعية . و أن يكون نموه بالسرعة اللازمة كي يلتحق بالدول الأوروبية المنافسة لها. و كما يبدو أن فرنسا إستفادت كثيرا من تواجد الجماعات الإرهابية المسلحة في الساحل الأفريقي. لأن ذلك يعطيها الشرعية التامة لتموقع قواتها العسكرية في تلك المنطقة بصفة طبيعية و دائمة . يقول أحد خبراء فرنسا ، و هو عضو دائم في مجلس الأمن ، أن بلاده تمارس سياسة النفاق بإسم محاربة الإرهاب ، و تستعمله بطبيعة الحال لإغراض وظيفية .
الهجرة و موقف فرنسا منها
أما الهجرة العابرة للبحر المتوسط بطريقة غير نظامية ، و التي باتت تقلق الكثير من دول أوروبا الجنوبية منها فرنسا على الخصوص . فإن فرنسا ترى فيها تهديدا للأمن الداخلي ، و لإستقرار المجتمع . نظرا لما تعتقده بأن الهجرة تحتوي على عناصر يشتبه في إنتمائها إلى الجماعات إرهابية ، وفدت إليها من أفريقيا و المغرب العربي . هذا الإعتقاد بات راصخا بعد الهجمة الإرهابية على كنيسة " نوتردام" بمدينة "نيس" الفرنسية ، و الهجمة الأخيرة على إثر القيام بالإساءة للرسول الكريم من خلال الصور الكاريكاتورية . و من هنا حركت فرنسا جهازها الدبلوماسي للضغط على دول المغرب ، قصد إستقبال المهاجرين من مواطنيه غير المرغوب فيهم . أن الرئيس الفرنسي الحالي ، و حكومته يدركون تمام الإدراك ، أن ما يقومون به ليس هو الحل الحاسم ، و النهائي لمشكلة الهجرة غير الشرعية. نظرا لتنامي عدد المهاجرين بشكل مخيف . خاصة إذا علمنا أن موجات الهجرة تضم كذلك الأطفال و النساء . و حسب رأينا فان سياسة رئيس الحكومة الفرنسية هي مبدئيا تكريس الفشل في تعاطيه مع كل مشاكل المجتمع الفرنسي اليوم .
و أول ما يلاحظ عليه في هذا المجال ، أنه مكن اليمين المتطرف من إنتقاد سياسته الفاشلة بشدة ، و توجيه اللوم إليه على كيفية التعامل مع ملف الهجرة . كما أن السلطة في باريس منحت فرصة ثمينة لأحزاب اليمين، تمثلت في الأستفادة من الوضع المتأزم و تمكينها إلى حد ما ، من إستثماره بغية إكتساب الرأي العام في صفها أثناء الإنتخابات الرئاسية المقبلة لقد أيقظت الأحزاب اليمينية الرأي العام الفرنسي بخطورة تواجد المهاجرين المسلمين ضمن أفراد المجتمع الفرنسي . ما يؤدي حسبها إلى إنتشار الإجرام ، و إرتفاع نسبة البطالة ، و إنهيار القدرة الشرائية ، و إضمحلال خصائص المجتمع الفرنسي . و بهذه الطريقة إستطاعت تحريض المجتمع على السلطة الحاكمة . و يبدو ذلك في تقهقر الحزب الإشتراكي و الجمهوري في السباق نحو الإنتخابات الرئاسية .
مصادر البحث :
- غازي معلى : صحفي تونسي و خبير في الشؤون الليبية .
- فرانس أفريك : تقارير 08/01/2019 . عائد عميرة و حفصة جودة . كيف تنهب فرنسا خيرات أفريقيا .
- إسطنبول أناضول : تقارير 30/01/2020 . الكاتب كاان دوه جي أوغلو. فرنسا في غرب أفريقيا .
- مفوض الهجرة .تقارير 19/05/ 2021/ . وفاة عماري .
- محمد بادين ياتيوي أناضول . فرنسا و العلاقات غير العادلة مع أفريقيا.
- مركز المستقبل للأبحاث و الدراسات المتقدمة . 05/04/2021 .
- عباس ميموني الأناضول : 14/12/2020 . فرنسا تمول الإرهاب بالفدية .
- TRTعربي تقارير 16/11/2020 ترحيل المهاجرين إلى بلدانهم .و دور فرنسا المريب .