مصير الأمة الفرنسية |
تدعيات إخفاق السياسة الفرنسية الخارجية
من تداعايت السياسة الفرنسية الخارجية غير الموفقة ، تراكم الإخفاقات الناتجة عن سوء تسيير و توجيه العلاقات السياسية ، و الإقتصادية مع غيرها من الشركاء الإقتصاديين الأجانب . فإن كانت فرنسا تطمح فعلا للمحافظة على مكانتها في السوق العالمية ، يجب عليها التحلي بالحكمة الدبلوماسية في مراعاة مصالحها الخارجية . لكن للأسف فإن مصداقيتها بدأت تتهاوى شيئا فشيئا . من أبرز صور سوء التصرف، فسخ العقد التجاري المتمثل في صفقة بيع غواصات فرنسية لأستراليا بداية سنة 2016 ميلادية . كانت أستراليا ترى في هذه الصفقة ، دعما قويا لأسطولها البحري العسكري بحوالي 12 غواصة فرنسية . و إعتبرت فرنسا من جهتها ، أنها صفقة القرن التي تفوق قيمتها خمسين مليار دولار . لم تخف فرنسا جراء فسخ العقد ، غضبها و خيبتها من هذه الفعلة . بل عبرت عنها بالطعنة في الظهر ، و خيانة الثقة من قبل حلفائها.
إن سياسة فرنسا غير المتزنة على المستوى الخارجي كما نلاحظ ، تسببت فعلا في تقهقر موقعها الإقتصادي في نظر الشركاء الإقتصاديين الفاعلين على المستوى العالمي . من بينهم "الولايات المتحدة الأمريكية "، "المملكة المتحدة البريطانية" ، و "أستراليا" . لقد إعتبر هذا الحلف الثلاثي "الأنجلوسكسوني" أن فرنسا تبقى في نظره شريكا من الدرجة الثانية ، لا يعول عليها كثيرا . و ما يؤكد ذلك أن الرئيس الأسترالي "سكوت موريسون" صرح أن قدرة الغواصات الفرنسية التقليدية ، لا يمكن أن تلبي المطالب الأمنية الإستراتيجية لبلاده في منطقة المحيطين الهادي و الهندي . و بالتالي وجد نفسه مضطرا إلى إلغاء العقد مع شركة نافال الفرنسية ، و تحويل المشروع إلى "الولايات المتحدة الأمريكية"و "بريطانيا" بغية الحصول على غواصات حديثة ذات نظام الدفع النووي . و ما يزيد إهمال فرنسا من قبل حلفائها ، أن أمريكا إنسحبت نهائيا من أفغانستان دون إستشارتها في الأمر .
إن ما يعاب على رئيس فرنسا الحالي : غطرسته و تعصبه لرأيه ، و قلة دهائه السياسي في مسائل سياسية تقتضي بُعد النظر ، و التركيز على ما يخدم مصالح الأمة الفرنسية الحيوية . و الصبر و عدم التسرع و الإرتجال . إلا أنه صب كل إهتماماته نحو الإنفاق من إمكانيات بلاده المتواضعة المالية ، و الصناعية لمكافحة التنظمات الإرهابية . و دعم الدكتاتوريات لقمع الشعوب ، و إسكات المعارضة في القارة الإفريقية . و بالتالي أوقع بلاده في أزمة اللاجئين الوافدين اليها . كما أوقعها في عدة مشاكل خارجية ، لا يكون حلها إلا بالخسارة الفادحة على حساب سمعة فرنسا السياسية ، و الإقتصادية و العسكرية ، كتدخله في "سوريا" و "لبنان" و "مالي" و "ليبيا".
مصير فرنسا في إفريقيا أمام الدول العظمى
بعد عجزت الحكومة فرنسية في افريقيا عن القضاء على التنظيمات الجهادية المسلحة ، طيلة 8 سنوات . و تصاعد وتيرة غضب الأفارقة و إحتجاجهم على وجودها . و الإهانة الكبرى التي تعرضت لها من قبل حلفائها المقربين في شأن صفقة الغواصات . هاهي الآن تواجه أعتى تحد دولي قوي منافس لها في المنطقة الغربية لإفريقيا . إن "روسيا" و "الصين" و "تركيا" هم شبح إنهيار و إفلاس فرنسا في إفريقيا الفرنكوفونية . فلم يعد يفدها إنشاء القواعد العسكرية ، و لا التدخلات المسلحة ، و لا صناعة الأنظمة السياسية الموالية لها . إن من أبرز سيمات الفشل ، إنهاء العملية العسكرية الفرنسية "سانغاريس" في إفريقيا الوسطى سنة 2013 ـ 2016 ميلادية و عملية "برخان" 2014 ـ 2016 ميلادية في مالي . لم تجد فرنسا بدا إلا الإنسحاب النهائي من كل العمليات العسكرية المكلفة جدا في هذه القارة .
النفوذ الروسي يزاحم فرنسا في قارة إفريقيا
تسعى "روسيا" الآن إلى ملء الفراغ الذي ستضطر "فرنسا" في يوم ما تركه في منطقة الساحل ، و جنوب الصحراء مرغمة ، بعد الإخفاقات المتعددة التي آلت إليها سياسة فرنسا الخارجية . لقد لاحظنا نوايا "روسيا" الآن تتجسد على الواقع الإفريقي ، بعد فشل "فرنسا" عسكريا ، و ذلك من خلال إنشاء شركة روسية للتعدين في "جمهورية إفريقيا الوسطى" . كما حظيت شركة روسية أخرى بالموافقة على التنقيب عن الذهب ، و الماس . بالإضافة إلى ذلك ، فإن مجموعة "فاغنر" الروسية حطت رحالها في نفس المنطقة و كلفت بتدريب الحرس الجمهوري ، و الجيش لهذه الدولة . إن النفوذ الروسي القوي في "جمهورية إفريقيا الوسطى" ، أثار غضب و إنتقاد "فرنسا" على المستوى الرسمي . و من الطبيعي إنه مر دون جدوى سنة 2018 ميلادية . لم يقف الأمر عند هذه التحولات السياسية في إفريقيا ، بل واصلت روسيا نفوذها إلى أجزاء أخرى من غرب القارة . بحيث أن "موسكو" بدأت تترقب عن كثب إنسحاب الجيش الفرنسي من مالي، لتستحوذ على ما كان لها في المنطقة . خاصة إذا علمنا أن "إبراهيم أبي بكر كايتا" رئيس السلطة في "مالي" ، المدعم من قبل "فرنسا" ، قد تم الإطاحة به من طرف ضباط سامين ، تدربوا في "روسيا" . و بالتالي فإن الوجود الروسي العسكري سيتقوى بمجموعة "فاغنر" العسكرية التي أسند لها نفس المهام التي يؤديها في "جمهورية إفريقيا الوسطى" .
إن النفوذ الروسي لم يعد حبيس منطقة غرب إفريقيا ، بل إمتد إلى شمالها أيضا . و ذلك بوصول مجموعة "فاغنر" الروسية إلى آبار النفط الليبي في منطقة فزان ، أين تتكاثر التنظيمات الإرهابية المستهدفة لمصالح فرنسا بالدرجة الأولى . و يعتبر هذا في حد ذاته تهديدا روسيا صارخا لنفوذ فرنسا في المنطقة . إن الصورة تبدو واضحة إذا علمنا أن روسيا تمكنت من توقيع 19 إتفاقية تعاون عسكري تقني مع الدول الإفريقية خلال سنة 2014 ـ 2019 ميلادية .
أفريقيا تترك فرنسا و ترحب بالصين
على عكس روسيا التي فرضت وجودها عن طريق التعاون العسكري و الأمني، فإن الصين بدأت تنفذ إلى إفريقيا بهدوء تام عن طريق التعاون الإقتصادي من خلال الإستثمار في النفط و التجارة . تعتبر الصين عملاقا إقتصاديا يفوق إقتصاد فرنسا بسبعة أضعاف. و هي الدولة الوحيدة التي تفرق بين السياسة و المال و الأعمال .
قال الرئيس السنغالي الأسبق عبد الله واد: أن فهم الصين لإحتياجاتنا أفضل من الفهم البطيء و المتغطرس في بعض الأحيان للمستثمرين الأوروبيين و المنظمات المانحة و المنظمات غير الحكومية .
إن ما يعيق التعاون الإقتصادي الصيني مع الأفارقة اليوم ، هو تعامل بعض دولها في وسط و غرب القارة بالفرنك الأفريقي المرتبط بالنقد الفرنسي ، و بالتالي فإن الصين مضطرة للمرور عبر البنك المركزي في باريس . هذا ما تعيه الطبقة المثقفة الأفريقية جيدا و تطالب بالتحرر منه قصد اإنطلاق في شراكة حقيقية مع هذه الدولة الآسيوية .
دور تركيا الحديث في أفريقيا بدلا من فرنسا
إن تركيا تنافس فرنسا في المنطقة منذ 2005 ميلادية . تستعين تركيا لتثبيت نفوذها في هذه القارة ، بالتعاون الإنساني المتمثل في تشييد المستشفيات ، و المدارس ، و المساجد ، و حفر الآبار ، و تمكين الطلبة من الدراسة في جامعاتها . ثم كان إنتقالها إلى العمل السياسي الديبلوماسي ، و الإقتصادي ، و الإستثمار الكثيف مع معظم الدول الأفريقية . و لا ننسى التعاون العسكري القوي الذي أثبت فعاليته أمام القدرات العسكرية الفرنسية في ليبيا . إن بُعد النظر لتركيا الآن ، هو تعويض إنسحاب فرنسا من الساحل الإفريقي ، و جنوب الصحراء على إثر فشل عملية برخان . لقد مهدت الطريق بإبرام عدة إتفاقيات عسكرية ، و إنشاء قواعد عسكرية في النيجر و مالي و بوركينافاسو .
بات واضحا ، أن الأفارقة ينظرون إلى فرنسا على أنها دولة ذات تاريخ أسود في إفريقيا ، حاولت طمس هويتهم الدينية و الوطنية . و من الطبيعي جدا أن يميلوا إلى تركيا التي لمسوا منها نية التعاون على قدم المساواة.
تراجع نفوذ فرنسا الإقتصادي في الجزائر
تمر العلاقات الفرنسية الجزائرية بأوقات حرجة جدا . و ما أدى إلى هذا التوتر الحاد في العلاقات ، هو رفض السلطة الفرنسية تسوية ملف الذاكرة ، و الإعتراف بالجرائم البشعة خلال حقبة الاحتلال للجزائر. لقد إنعكست هذه التوترات بشكل مباشر على الجانب الإقتصادي . و إذا بقي الوضع على هذه الحال حسب الخبراء دون تسوية منصفة ترمم هذه العلاقات ، فإن فرنسا ستفقد مكانتها لصالح "روسيا" و "الصين" و "تركيا" . و فعلا بدأت المنافسة تظهر في الآونة الأخيرة بين الشركات الفرنسية و الصينية في السوق الجزائري لقد إستحوذت الصين على مشروع إنجاز ميناء الحمادنية ، و مشروع الحديد و الصلب في الجنوب الجزائري. كما أخذت تركيا عدة مشاريع صناعيىة أخرى ، و عادت روسيا حليفا أساسيا للجزائر في ميدان الأسلحة و الحبوب .
إكتست السوق الجزائر مكانة عظيمة بالنسبة لفرنسا ، إذ كانت تستورد منها الحبوب ، و المواد الصيدلانية ، و السيارات ، و مشتقات النفط . كانت تسهر على توفيرها حوالي 8 ألاف مؤسسة فرنسية . تتوزع بشكل رئيسي على توفير الخدمات المالية ، و الصناعات الإستخراجية ، و التحويلية ، بقيمة أربعة مليار دولار سنة 2019 ميلادية . باتت الظروف السياسية المضطربة بين البلدين تؤثر سلبيا الآن على النفوذ الفرنسي في السوق الجزائري.
يقول الخبير سليمان ناصر : لقد حلت فرنسا في المرتبة الثانية فعلا ، فوصلت قيمة الواردات 4.3 مليار دولار سنة 2019 ميلادية بنسبة 10 % . بينما الصين قفزت إلى المرتبة الأولى بقيمة 7.6 مليار دولار بنسبة 18 % من حجم الواردات . إن فرنسا تخشى الآن فقدان المرتبة الثانية في السوق مع العلم أن الجزائر تتجه نحو السوق الروسية لإستراد القمح و نحو الصين لإستراد المنتجات الصناعية . لا نتكلم عن الإستثمار الفرنسي الذي بات يهدده الإفلاس الحقيقي .
مصادر البحث :
- حسن زنيند . تقرير /22/09/2021. . الغواصات الفرنسية سر صفقة زلزلت العلاقات الأطلسية .
- صلاح سليمان . تقرير 03/10/2021. إذلال الرئيس ماكرون .
- عربي بوست .تقرير .19/01/2021. روسيا الصين تركيا تهدد بإنزال فرنسا من عرشها الإفريقي .
- العين اإخبارية . يونس بورنان . إنتقادات التراجع الإستثمار الفرنسي في الجزائر .
- جريدة سبوتنيك عربي 02/05 2021 فرنسا تخسر مكانتها الإقتصادية في الجزائر.